سورة الطلاق | للقراءة من المصحف بخط كبير واضح
استماع mp3 | الجلالين&الميسر | تفسير الشوكاني |
إعراب الصفحة | تفسير ابن كثير | تفسير القرطبي |
التفسير المختصر | تفسير الطبري | تفسير السعدي |
تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 559 من المصحف
** أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرّوهُنّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنّ وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىَ * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّآ آتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
يقول تعالى آمراً عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها فقال: {أسكنوهن من حيث سكنتم} أي عندكم {من وجدكم} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني سعتكم حتى قال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه, وقوله تعالى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} قال مقاتل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه, وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} قال يطلقها فإذا بقي يومان راجعها.
وقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} قال كثير من العلماءمنهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها, قالوا بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا, وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات وإنما نص على الإنفاق على الحامل, وإن كانت رجعية, لأن الحمل تطول مدته غالباً فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع, لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة, ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة الحمل أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ويتفرع عليها مسائل كثيرة مذكورة في علم الفروع.
وقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم} أي إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بن بانقضاء عدتهن ولها حينئذ أن ترضع الولد ولها أن تمتنع منه, ولكن بعد أن تغذيه باللبأ, وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالباً إلا به, فإن أرضعت استحقت أجر مثلها, ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة, ولهذا قال تعالى: {فإن أرضعن لكن فآتوهن أجورهن} وقوله تعالى: {وائتمروا بينكم بمعروف} أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة كما قال تعالى في سورة البقرة: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} وقوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} أي وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً, ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه, فليسترضع له غيرها, فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.
وقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاه} كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعه} روى ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام, فبعث إليه بألف دينار وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها ؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب, وأكل أطيب الطعام, فجاءه الرسول فأخبره, فقال رحمه الله تعالى تأول هذه الاَية {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا هاشم بن مزيد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, أخبرني أبي, أخبرني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري واسمه الحارث, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار, وكان لاَخر عشر أواقٍ فتصدق منها بأوقية وكان آخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر أواق ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هم في الأجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله قال الله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسر} وعد منه تعالى ووعده حق لا يخلفه وهذه كقوله تعالى: {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسر} وقد روى الإمام أحمد حديثاً يحسن أن نذكره ههنا: فقال: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا عبد الحميد بن بهرام, حدثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو هريرة: بينما رجل وامرأة من السلف الخالي لا يقدران على شيء, فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته مسغبة شديدة, فقال لامرأته عندك شيء ؟ قالت: نعم أبشر أتانا رزق الله فاستحثها فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شيء, قالت: نعم هنيهة ترجو رحمة الله, حتى إذا طال عليه الطول قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به فإني قد بلغت وجهدت, فقالت: نعم, الاَن نفتح التنور فلا تعجل, فلما أن سكت عنها ساعة وتحينت أن يقول لها قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فنظرت إلى تنورها ملاَن من جنوب الغنم ورحييها تطحنان, فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم, قال أبو هريرة: فو الذي نفس أبي القاسم بيده هو قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة».
وقال في موضع آخر: حدثنا أبو عامر, حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد, وهو ابن سيرين عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاحة خرج إلى البرية, فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته, ثم قالت: اللهم ارزقنا, فنظرت, فإذا الجفنة قد امتلأت قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً, قال فرجع الزوج فقال: أصبتم بعدي شيئاً ؟ قالت: امرأته: نعم من ربنا, فأمّ إلى الرحى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة».
** وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذّبْنَاهَا عَذَاباً نّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ الّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِزْقاً
يقول تعالى متوعداً لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه, ومخبراً عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك, فقال تعالى: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فحاسبناها حسابا شديداً وعذبناها عذاباً نكر} أي منكراً فظيعاً {فذاقت وبال أمره} أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم {وكان عاقبة أمرها خسراً * أعد الله لهم عذابا شديد} أي في الدار الاَخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا, ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي الأفهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب {الذين آمنو} أي صدقوا بالله ورسله {قد أنزل الله إليكم ذكر} أي القرآن كقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
وقوله تعالى: {رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} قال بعضهم: رسولاً منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر. قال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيراً له, ولهذا قال تعالى: {رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بينة واضحة جلية {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} وقال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم, وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نوراً لما يحصل به من الهدى كما سماه روحاً لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقوله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزق} قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته ههنا, ولله الحمد والمنة.
** اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ لّتَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمَا
يقول تعالى مخبراً عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثاً على تعظيم ما شرع من الدين القويم {الله الذي خلق سبع سموات} كقوله تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً ؟} وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} وقوله تعالى: {ومن الأرض مثلهن} أي سبعاً أيضاً كما ثبت في الصحيحين «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري «خسف به إلى سبع أرضين» وقد ذكرت طرقه وألفاظه وعزوه في أول البداية والنهاية عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة, ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند, وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله تعالى: {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن} ذكر الأرضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام. وهكذا قال ابن مسعود وغيره وكذا في الحديث الاَخر «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهم في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم, وكفركم تكذيبكم بها, وحدثنا ابن حميد: حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القمي الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} الاَية. فقال ابن عباس: ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الاَية {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال عمرو: قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم, وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أحمد بن يعقوب, حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنبأنا علي بن حكيم, حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام, ثم قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً والله أعلم. قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار, حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال: «ما لكم لا تتكلمون ؟» فقالوا: نتفكر في خلق الله عز وجل قال: «فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضاً بيضاء نورها ساحتها ـ أو قال ساحتها نورها ـ مسيرة الشمس أربعين يوماً بها خلق من خلق الله تعالى لم يعصوا الله طرفة عين قط» قالوا: فأين الشيطان عنهم ؟ قال: «ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟» قالوا: أمن ولد آدم ؟ قال «لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟» وهذا حديث مرسل وهو منكر جداً وعثمان بن أبي دهرس ذكره ابن أبي حاتم في كتابه, فقال: روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك. آخر تفسير سورة الطلاق, ولله الحمد والمنة.
تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 559
559 : تفسير الصفحة رقم 559 من القرآن الكريم** أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرّوهُنّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنّ وَإِن كُنّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنّ حَتّىَ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىَ * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّآ آتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
يقول تعالى آمراً عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها فقال: {أسكنوهن من حيث سكنتم} أي عندكم {من وجدكم} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني سعتكم حتى قال قتادة: إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه, وقوله تعالى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} قال مقاتل بن حيان: يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه, وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى: {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} قال يطلقها فإذا بقي يومان راجعها.
وقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} قال كثير من العلماءمنهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف: هذه في البائن إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها, قالوا بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا, وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات وإنما نص على الإنفاق على الحامل, وإن كانت رجعية, لأن الحمل تطول مدته غالباً فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع, لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة, ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة الحمل أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ويتفرع عليها مسائل كثيرة مذكورة في علم الفروع.
وقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم} أي إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بن بانقضاء عدتهن ولها حينئذ أن ترضع الولد ولها أن تمتنع منه, ولكن بعد أن تغذيه باللبأ, وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالباً إلا به, فإن أرضعت استحقت أجر مثلها, ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة, ولهذا قال تعالى: {فإن أرضعن لكن فآتوهن أجورهن} وقوله تعالى: {وائتمروا بينكم بمعروف} أي: ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة كما قال تعالى في سورة البقرة: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} وقوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} أي وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً, ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه, فليسترضع له غيرها, فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.
وقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاه} كقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعه} روى ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا حكام عن أبي سنان قال: سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام, فبعث إليه بألف دينار وقال للرسول: انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها ؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب, وأكل أطيب الطعام, فجاءه الرسول فأخبره, فقال رحمه الله تعالى تأول هذه الاَية {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا هاشم بن مزيد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش, أخبرني أبي, أخبرني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري واسمه الحارث, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار, وكان لاَخر عشر أواقٍ فتصدق منها بأوقية وكان آخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر أواق ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هم في الأجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله قال الله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسر} وعد منه تعالى ووعده حق لا يخلفه وهذه كقوله تعالى: {فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسر} وقد روى الإمام أحمد حديثاً يحسن أن نذكره ههنا: فقال: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا عبد الحميد بن بهرام, حدثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو هريرة: بينما رجل وامرأة من السلف الخالي لا يقدران على شيء, فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعاً قد أصابته مسغبة شديدة, فقال لامرأته عندك شيء ؟ قالت: نعم أبشر أتانا رزق الله فاستحثها فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شيء, قالت: نعم هنيهة ترجو رحمة الله, حتى إذا طال عليه الطول قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به فإني قد بلغت وجهدت, فقالت: نعم, الاَن نفتح التنور فلا تعجل, فلما أن سكت عنها ساعة وتحينت أن يقول لها قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فنظرت إلى تنورها ملاَن من جنوب الغنم ورحييها تطحنان, فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم, قال أبو هريرة: فو الذي نفس أبي القاسم بيده هو قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم القيامة».
وقال في موضع آخر: حدثنا أبو عامر, حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد, وهو ابن سيرين عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاحة خرج إلى البرية, فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته, ثم قالت: اللهم ارزقنا, فنظرت, فإذا الجفنة قد امتلأت قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً, قال فرجع الزوج فقال: أصبتم بعدي شيئاً ؟ قالت: امرأته: نعم من ربنا, فأمّ إلى الرحى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة».
** وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذّبْنَاهَا عَذَاباً نّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ الّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِزْقاً
يقول تعالى متوعداً لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه, ومخبراً عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك, فقال تعالى: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله} أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فحاسبناها حسابا شديداً وعذبناها عذاباً نكر} أي منكراً فظيعاً {فذاقت وبال أمره} أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم {وكان عاقبة أمرها خسراً * أعد الله لهم عذابا شديد} أي في الدار الاَخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا, ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي الأفهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب {الذين آمنو} أي صدقوا بالله ورسله {قد أنزل الله إليكم ذكر} أي القرآن كقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
وقوله تعالى: {رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} قال بعضهم: رسولاً منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر. قال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيراً له, ولهذا قال تعالى: {رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بينة واضحة جلية {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} وقال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم, وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نوراً لما يحصل به من الهدى كما سماه روحاً لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقوله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزق} قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته ههنا, ولله الحمد والمنة.
** اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنّ يَتَنَزّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنّ لّتَعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمَا
يقول تعالى مخبراً عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثاً على تعظيم ما شرع من الدين القويم {الله الذي خلق سبع سموات} كقوله تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً ؟} وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} وقوله تعالى: {ومن الأرض مثلهن} أي سبعاً أيضاً كما ثبت في الصحيحين «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري «خسف به إلى سبع أرضين» وقد ذكرت طرقه وألفاظه وعزوه في أول البداية والنهاية عند ذكر خلق الأرض ولله الحمد والمنة, ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند, وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله تعالى: {هو الأول والاَخر والظاهر والباطن} ذكر الأرضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام. وهكذا قال ابن مسعود وغيره وكذا في الحديث الاَخر «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهم في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم, وكفركم تكذيبكم بها, وحدثنا ابن حميد: حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القمي الأشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} الاَية. فقال ابن عباس: ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الاَية {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال عمرو: قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم, وروى البيهقي في كتاب الأسماء والصفات هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أحمد بن يعقوب, حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنبأنا علي بن حكيم, حدثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} قال: في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام, ثم قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً والله أعلم. قال الإمام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار, حدثني إسحاق بن حاتم المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال: «ما لكم لا تتكلمون ؟» فقالوا: نتفكر في خلق الله عز وجل قال: «فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضاً بيضاء نورها ساحتها ـ أو قال ساحتها نورها ـ مسيرة الشمس أربعين يوماً بها خلق من خلق الله تعالى لم يعصوا الله طرفة عين قط» قالوا: فأين الشيطان عنهم ؟ قال: «ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟» قالوا: أمن ولد آدم ؟ قال «لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟» وهذا حديث مرسل وهو منكر جداً وعثمان بن أبي دهرس ذكره ابن أبي حاتم في كتابه, فقال: روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك. آخر تفسير سورة الطلاق, ولله الحمد والمنة.
الصفحة رقم 559 من المصحف تحميل و استماع mp3